عاشق الصدر
عضو جديد عدد المساهمات : 37 السٌّمعَة : 0 تاريخ التسجيل : 24/08/2010 العمر : 47 | موضوع: الزهراء سيدة النساء أكتوبر 30th 2010, 13:21 | |
| {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ } { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً }فاطمة الزهراء ((عليها السلام )) إنّ التحليق حول حياة فاطمة الزهراء (عليها السلام) وعوالمها، يعدّ من الأُمور المهمّة، التي لابدّ للإنسان المؤمن الإلمام بها؛ لمعرفة منزلتها المباركة ومكانة المرأة المؤمنة في الإسلام ووظيفتها المناطة بها على مرّ الأجيال، فالقدوة الصالحة التي تعهّدت السماء بإعدادها لتربية الأجيال المؤمنة تارةً تكون رجلاً وأُخرى تكون امرأةً، وكما تشيد السماء بمواقف رجال صالحين، تشيد أخرى بمواقف نساء صالحات، فهذا كتاب اللَّه ينطق بالحقّ، وليس هذا فقط، فقد راح يرسم لنا نماذج خالدة من الصالحين والصالحات إلى جانب ذكره لنماذج سيّئة رجالاً كانت هذه النماذج أم نساءً. فتراه يذكر فرعون وهامان وقارون أمثلة للشرّ والطغيان، تراه يذكر الأنبياء والذين آمنوا معهم أمثلة للخير والعطاء، وكما يذكر لنا امرأة نوح ولوط وتمرّدهما يذكر امرأة فرعون آسية، ومريم بنت عمران أمثلة للإيمان والعفّة والتقوى: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ* وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ). وهكذا كان منهج القرآن في تربية أتباعه، يميّز الخبيث من الطيّب، ويرسم لنا أُسوته الحسنة، التي يرغّب أتباعه ويحثّهم على إتباعها. فالزهراء سلام اللَّه عليها لم تكن واحدةً من النساء ا لصالحات اللواتي ذكرهنّ القرآن الكريم فحسب، بل كانت سيّدتهن وهو ما صرّح به رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله): ((فاطمة سيّدة نساء العالمين))، فقد حظيت بمكانة عظيمة ومنزلة رفيعة ممّا جعلها محطّ إعجاب واحترام وتقدير عند المسلمين جميعاً، فقد كانت وما زالت وستبقى مثال المرأة التي تريدها السماء، وستبقى بضعة من رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله) بكلّ ما تعنيه هذه الكلمة من معان الطهارة والقداسة والإيمان والإسلام المجاهد القائم بالحقّ الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر والرافض للظلم والطغيان. لقد أبت الزهراء إلّا أن تكون قدوة صالحة في كلّ مفاصل حياتها على قصرها للإنسان الموحِّد وللمرأة الموحِّدة. فتراها قدوةً في بيتها مع زوجها وأولادها وخدمها والناس جميعاً، قدوة في أخلاقها، في سيرتها، في عبادتها، في زهدها، في عطائها، في كلّ ما تحمّلته من مسؤوليات، وفي كلّ ما قدّمته من خيرٍ وعطاء، أبت إلّا أن تعيش للَّه وحده وللإسلام وللناس جميعاً. إنّ من يريد معرفة الزهراء، فلينظر إلى كلمات رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله) فيها، ومواقفه منها، ولينظر إلى كلماتها خطبتيهاأمام مجمع كبير من المسلمين في مسجد أبيها رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله)، فيجد كلامها لوحات مضيئة رائعة الجمال والفنّ والبلاغة والبيان العربي المبين، وهي تدوّي بالحقّ وللحقّ لا لشيءٍ آخر، يجدها العالمة المدافعة عن الحقّ والعدل، الرافضة للظلم والتسلّط والتجاوز. لقد كانت الزهراء (عليها السلام) مدرسة في كلّ شيء؛ مدرسة مليئة بجمٍّ غفير من القيم والمبادئ ومعاني الخير والعطاء، ولهذا ولغيره من الخصائص والصفات والمناقب راحت كلمات رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله) تلاحقها وتشيد بها وتكشف عن منزلتها وسموّها ورفعتها: ((فاطمة قلبي وروحي التي بين جنبيّ)). ((فاطمة بضعةٌ منّي، مَن آذاها فقد آذاني، ومَن أحبّها فقد أحبّني)). ((فاطمة سيّدة نساء العالمين)). ((إنّ اللَّه ليغضب لغضب فاطمة ويرضى لرضاها)). ((إنّها أوسمة عظيمة كانت فاطمة جديرة بحملها)). درر عظيمة ساقها رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله) ليزيّن بها صدر فاطمة. إنّها كلمات السماء نطق بها رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله) الذي قال: (ومَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى* إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْىٌ يُوحَى). وقال كلّ ذلك وغيره لا لأنّها ابنته دماً ونسباً، فله بنات أُخريات، بل لأنّها صناعة سماوية خاصّة، ظلّت تستحقّ كلّ هذا وغيره، وحاشى لرسول اللَّه (صلى الله عليه وآله) أن يجامل أو يداهن أو يتبع عواطفه الأبويّة ومشاعره وحنانه... لقد كان حبّه لها كحبّ يعقوب لابنه يوسف دون إخوته لحبّ اللَّه تعالى له واصطفائه إيّاه، ومحبوب المحبوب محبوب. يحدّثنا التاريخ ومصادره أنّه (صلى الله عليه وآله) كان يقول عنها: ((فاطمة أُمّ أبيها))، وهي ما زالت في عمر الورد، كان يناديها ((يا حبيبة أبيها)) وكان يكثر تقبيلها، ويشمّ رائحتها كلّما اشتاق إلى رائحة الجنّة، وكان يكثر من قوله: ((فاطمة بضعةٌ منّي، مَن سرّها فقد سرّني، ومن ساءها فقد ساءني، فاطمة أعزّ الناس إليّ)). كان يقبّل يدها، كما يقبِّل الولد يد أُمّه، كان بيتها الأوّل عند سفره والأوّل عند عودته، يودّعها حينما يسافر أو يقاتل، يزورها حينما يعود، ففاطمة مثابة منها الانطلاقة وإليها العودة، كان يأمر أتباعه بأن يخاطبوه برسول اللَّه، فيما كان (صلى الله عليه وآله) يمنعها من ذلك ويطلب أن تدعوه ب (يا أبه). كان لا يجد لتعبه وآلامه مستقرّاً وراحةً إلا عندها، تضمّد جراحه، وتخفّف آلامه، وتمسح جبينه. كانت (عليها السلام) أُمّه وابنته بكلّ ما تعنيه هذه الكلمات من معان. إنّ الحديث عن الزهراء تستعذبه الأرواح، وتأنس به النفوس، وتطيب به القلوب؛ لأنّه عظيم المنفعة، غزير الفائدة، فحياتها سلام اللَّه عليها - على قصرها مليئة بالدروس والحكم والعِبر؛ قمّة الفضيلة وذروة الشرف، وأوج العفّة والعظمة. وكيف لا يكون كذلك، وهو حديث عن أولياء اللَّه الصالحين وأحبّائه ألمنتجبين وخاصّته المقرّبين؟! وكيف لا يكون كذلك، وهو حديث عن امرأة الإسلام الأولى، وسيّدة نساء العالمين، وابنة خاتم المرسلين؟! وكيف لا يكون كذلك، وهو حديث عن سيّدة كانت وما زالت وستبقى أعظم قدوة عرفتها الدُّنيا، وظلمها التأريخ الذي سطّرته أيدي الظالمين؟! وكيف لا يكون كذلك، وهو حديث عن القلب الطاهر، الذي ينبض عفّةً وبراءةً، ويخفق حبّاً للَّه ولرسوله؟! وكيف لا يكون كذلك، وهو حديث عن الزهراء، القمّة السامقة في تسليمها للَّه وانقيادها له، فكانت الإيمان كلّه، وكانت الغاية في الإخلاص والغاية في الصدق؟! لتبقى، نعم لتبقى الزهراء شاخصاً ورمزاً حيّاً أمامنا بكلّ ما تحمله من قيم السماء ومبادئ الدِّين الحنيف، وبكلّ ما تتحلّى به من إيمانٍ ثابت، وإسلام وثيق، وزهد مرير، وتضحية جسيمة، وأدب جميل، وعلمٍ غزير، وسيرة عطرة حسنة، تمنّى هذه الخصال كلّ من حولها والذين جاؤوا من بعدهم - فعصت هذه الصفات عليهم، وأبت إلّا أن تكون قلادةً لصدر الزهراء دون غيرها من العالمين، فكانت بحقّ إسلاماً يتحرّك في الوجود، وقرآناً ناطقاً يخرس ألسنة الظالمين والمغتصبين، مهما تظاهروا بالعدل والإخلاص... وإيماناً حيّاً يجسّد كلّ معاني السماء، معاني الخير والعطاء. حقّاً سيّدتي، فأنتِ ابنت مَن، خليلة مَن، أُمّ مَن؟! فماذا عساني أن أقول فيكِ، وأنا أعجز من أن أتفوّه بكلمة مدح أو ثناء، أو ذِكر وصف أو منقبة لسيّدة الكون كلّه والعفّة كلّها والطهارة كلّها؟! لم يصبروا قليلاً، لتغادري الدُّنيا - وما أسرع رحيلكِ عنها - بقلبٍ راضٍ عنهم. سوء حظّهم العاثر، أكبّهم على وجوههم، وزهو الدُّنيا أضلّهم، وحبّها جعلهم يغضبونك فينالوا جزاءهم عند مليكٍ مقتدر، وأضاعوا بذلك حسناتهم، إن كانت عندهم حسنات، وساءت عاقبتهم، فسحقاً للقوم الظالمين، آذوك ((ومَن آذاها فقد آذاني)) ترنّ في آذانهم، ولا يبالون! أغضبوك ((ومن أغضبك فقد أغضبني ...)) فتعساً لقومٍ يكون رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله) غداً خصمهم! أمّا أنت فكفى أنّك سيّدة النساء وسيّدة أهل الجنّة! ذريّة بعضها من بعض: الزهراء من سلالة ذريّة طيّبة، وعائلة كريمة، فهي من بني هاشم، سادة قريش بل سادة الدّنيا. يقول الجاحظ عنهم (ملح الأرض، وزينة الدُّنيا، وحلي العالم، والسنام الأضخم، والكاهل الأعظم، ولباب كلّ جوهر كريم، وسرّ كلّ عنصرٍ شريف، والطينة البيضاء، والمغرس المبارك، والنصاب الوثيق، والمعدن الفهم، وينبوع العلم...). أبوها: أكرم خلق اللَّه تعالى على الإطلاق، وخاتم رسله، وسيّد خلقه، وأعظم الناس فضلاً، حبيب اللَّه تعالى محمّد بن عبد اللَّه... القرشيّ الهاشميّ. أُمّها: خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزّى بن قصيّ بن كلاب بن مرّة... من قريش، فهي من بني أسد، وهي خديجة القرشيّة الأسديّة، تلتقي نسباً مع الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله) في جدّه الرابع قصيّ، فهو محمّد بن عبداللَّه بن عبد المطّلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصيّ... وهي بالتالي أقرب نسائه إليه. كانت تدعى في الجاهلية بالطاهرة، وسيّدة نساء قريش، وسيّدة قريش، وهي يومئذٍ أوسط نساء قريش نسباً، وأعظمهنّ شرفاً، وأكثرهنّ مالاً، وأحسنهنّ جمالاً.. وفي لفظ كان يقال لها أوسط نساء قريش؛ لأنّ الوسط في ذكر النسب من أوصاف المدح والتفضيل، يقال: فلان أوسط القبيلة أعرقها في نفسها.... من بركات اللَّه تعالى الخاصّة بهذه المرأة العاقلة في أمورها، الشريفة في قولها، أن مَنّ عليها بأن اختارها لتكون أوّل نساء العالمين إسلاماً، وأسبقهنّ تصديقاً برسول اللَّه ودعوته، بل أسبق الجميع بعد الإمام عليّ (عليه السلام) في إسلامها واعتناقها للدِّين الجديد، كما كانت أخلص نسائه (صلى الله عليه وآله) جهاداً، وبذلاً، وعطاءً، وأعظمهنّ وفاءً وطاعةً له، وأصبرهنّ تحمّلاً لما لاقاه رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله) من ضروب الأذى والتضييق والحصار، وأكثرهنّ بذلاً وعطاءً في سبيل اللَّه ورسوله.. وما فدك التي وهبها رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله) لفاطمة - واغتصبها قوم آخرون - إلّا وفاءً منه لما قدّمته خديجة للإسلام. فقد وضعت كلّ أموالها - وكانت كثيرة جدّاً - تحت يدي رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله)، التي قيّضها اللَّه لخدمة دينه، حتّى قال عنها رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله): ((ما نفعني مالٌ قطّ مثل ما نفعني مال خديجة))، ((ما قام ولا استقام الدِّين إلّا بسيف عليّ ومال خديجة)). كانت نِعمَ الزوجة الصالحة لرسول اللَّه (صلى الله عليه وآله)، كان إذا ذكرها أو ذُكرت عنده بعد وفاتها ترحَّم عليها، وانكسر قلبه لها، وربما جرت دموعه على خدّيه حزناً عليها. وكثيراً ما كانت عائشة تغار من ذكرها، فكانت تقول لرسول اللَّه (صلى الله عليه وآله): عجوز... قد أبدلك اللَّه خيراً منها! فيقول لها رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله): ((ما أبدلني خيراً منها، لقد آمنت بي حين كفر بي الناس، وصدّقتني حين كذّبني الناس، وأشركتني في مالها حين حرمني الناس، ورزقني اللَّه ولدها وحرمني ولد غيرها)). إذن فقد حظيت هذه المرأة الطاهرة بمكانة عظيمة، وذكرى طيّبة في قلب رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله)، وتركت في نفسه آثاراً جميلة، راح يذكرها طيلة حياته المباركة، ويكثر من الترحّم عليها. إطلالة مباركة: ذهبت الأمامية إلى أنّ سيّدتنا فاطمة الزهراء ولدت بعد البعثة النبويّة بخمس سنين، وبعد الإسراء بثلاث سنين، هذا قول، وقول آخر: إنّها ولدت سنة اثنتين من المبعث، في العشرين من جمادى الآخرة، وذهب إلى هذا الشيخ المفيد في كتاب (حدائق الرياض). فيما ذهب علماء السنّة إلى أنّها (عليها السلام) ولدت قبل البعثة، وقريش تبني الكعبة. وفي قصّة ولادتهاعليها السلام: قالت أُمّ المؤمنين خديجة(عليها السلام): فلمّا قربت ولادتي، أرسلت إلى القوابل من قريش، فأبين عليَّ لأجل (محمّد صلى الله عليه وآله)، فبينما أنا كذلك، إذ دخل عليَّ أربع نسوة، عليهنّ من الجمال والنور ما لا يوصف، فقالت إحداهنّ: أنا أُمّكِ حوّاء، وقالت الاُخرى: أنا آسية، وقالت الاُخرى: أنا أُمّ كلثوم (كلثم) أُخت موسى، وقالت الأُخرى: أنا مريم، جئنا لنلي أمرك. وفي رواية ثانية: أنّ خديجة لمّا أرادت أن تضع، بعثت إلى نساء قريش ليأتينّها، فيلين منها ما تلي النساء ممّن تلد، فلم يفعلن، وقلن: لانأتيك، قد صرت زوجة محمّد (صلى الله عليه وآله). فبينما هي كذلك، إذ دخل عليها أربع نسوة، عليهنّ من الجمال والنور ما لا يوصف، فقالت لها إحداهنّ: أنا أُمّك حوّاء، وقالت الأخرى: أنا آسية بنت مزاحم، وقالت الاُخرى: أنا كلثم أُخت موسى، وقالت الأخرى: أنا مريم بنت عمران (أُم عيسى)، جئنا لنلي من أمرك ما يلي النساء، قال: فولدت فاطمة، فوقعت حين وقعت على الأرض، ساجدةً رافعةً إصبعها. هذا ما رواه ومع تفصيل أكثر المفضّل بن عمرو عن الإمام الصادق عليه السلام. وروى ابن عساكر في التأريخ الكبير... وكانت خديجة إذا ولدت ولداً، دفعته لمن يرضعه، فلمّا ولدت فاطمة، لم ترضعها غيرها. وأيضاً رواه ابن كثير في البداية والنهاية. أسماؤها وكناها: كان لفاطمة الزهراء تسعة أسماء، فقد روي عن يونس بن ظبيان أنّه قال: قال أبو عبداللَّه عليه السلام: ((لفاطمة تسعة أسماء عند اللَّه عزّوجلّ: فاطمة، والصدِّيقة، والمباركة، والطاهرة، والزكيّة، والراضيّة، والمرضيّة، والمحدّثة، والزهراء...)). ولها كُنى متعدِّدة، فهي أمّ الحسن وأُمّ الحسين وأُمّ المحسن وأُمّ الأئمّة، وأُمّ المؤمنين. ولكنّها اشتهرت بكنيتها التي أطلقها عليها رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله): أُمّ أبيها. زواجها المبارك: كانت بضعة رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله) فاطمة الزهراء ذات منزلة عظيمة، فطالما تمنّى التشرّف والاقتران بها كبار الصحابة، ومن أهل السابقة في الإسلام والفضل والشرف والمال؛ لأنّها بنت رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله)، ولكثرة ما كانوا يسمعون منه (صلى الله عليه وآله) في ثنائه عليها واحترامها وتقديرها، ولموقعها العظيم منه (صلى الله عليه وآله) ومن الرسالة.. فقد راحت نفوسهم تطمح للاقتران بها، وكانوا كلّما تقدّم واحد منهم لم يجد عنده (صلى الله عليه وآله) إلّا أن يعرض بوجهه الكريم، حتّى يخرج منه القادم وهو يظنّ أنّه صلى الله عليه وآله ساخط عليه وغير راضٍ عنه، وإلّا الرفض، وأنّه ينتظر في زواجها أمر اللَّه وقضاءه. وإذ رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله) ينتظر أمر السماء فيها، تقدّم عليّعليه السلام بخطواته المعهودة بالحياء، وهذا شأنه إزاء رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله) في كلّ أُموره، فكيف به وهو آتٍ في أمر آخر، الاقتران بفاطمة الزهراء، فراحت نظراته عليه السلام تتوزّع هنا وهناك، تارةً إلى رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله) وأُخرى نحو السماء، وثالثة يرسلها بعيداً، ورابعة إلى ما بين يديه، فقد جاء لمشروع زواج وبناء بيت ويده خالية. وهنا حانت نظرة من رسول الرحمة محمد صلى الله عليه وآله إلى عليّ، وقد عرف أنّه قادم - هذه المرّة - بشيء جديد، وفي أمر على غير عادته، فبادره رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله) مشجّعاً له وكأنّه يستحثّه على النطق، وما إن نطق حتّى كان ذلك البيت في ذي الحجّة من السنة الثانية للهجرة النبويّة، الذي أرادته السماء، من أبهى بيوت الدُّنيا وأزهاها وأزكاها وأعظمها، بل وأغناها إيماناً وطهارةً، وأثراها أخلاقاً وعلماً... إنّه بيت رفعته السماء، ورفع فيها ذكر اللَّه تعالى، بل وظلّلته رحمته، وحلّ فيه رضوانه، إنّه بيت فاطمة وعليّ، ثمّ الحسن والحسين والذريّة الصالحة والأئمّة الأطهار، أئمّة الهدى والخير والعطاء. يقول الإمام عليّ (عليه السلام) عن خطبته للزهراء عليها السلام) كما في السنن الكبرى: ((لقد خُطبت فاطمة بنت النبيّ (صلى الله عليه وآله)، فقالت لي مولاة: هل علمت أنّ فاطمة تُخطب؟ قلت: لا - أو نعم - . قالت: فاخبطها إليك. قال: قلت: وهل عندي شيء أخطبها عليه؟ قال: فواللَّه ما زالت ترجيني حتّى دخلتُ عليه، وكنّا نجلّه ونعظّمه، فلمّا جلستُ بين يديه أُلجمت حتّى ما استطعت الكلام. قال: هل لك من حاجة؟ فسكتُ، فقالها ثلاث مرّات. قال: لعلّك جئت تخطب فاطمة!؟ قلت: نعم يارسول اللَّه. قال: هل عندك من شيء تستحلّها به؟ قال: قلت: لا واللَّه يارسول اللَّه. قال: فما فعلت بالدرع، التي كنتُ سلّحتكها؟ قال عليّ: واللَّه إنّها درع حُطميّة ما ثمنها إلّا أربعمائة درهم. قال: اذهب فقد زوّجتكها، وابعث بها إليها فاستحلّها به)). وقال رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله): ((إنّ اللَّه أمرني أن أزوّج فاطمة من عليّ)). وقال (صلى الله عليه وآله) أيضاً: ((واللَّه ما ألوت (أي ما قصّرت في أمرك وأمري) أن أزوّجك خير أهلي)). وأمّا ما روته كلّ من عائشة وأُمّ سلمه فهو: أمرنا رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله) أن نجهّز فاطمة حتّى ندخلها على عليٍّ، فعمدنا إلى البيت، ففرشناه تراباً ليّناً من أعراض البطحاء، ثمّ حشونا مرفقتين ليفاً، فنفشناه بأيدينا، ثمّ أطعمنا تمراً وزبيباً وسقينا ماءً عذباً، وعمدنا إلى عود، عرضناه في جانب البيت؛ ليلقى عليه الثوب، ويعلّق عليه السقاء، فما رأينا عرساً أحسن من عرس فاطمة. الزهراء وآيات قرآنية: إضافةً إلى أحاديث نبويّة وردت فيها وأقوال عظيمة تشيد بمكانتها ومنزلتها وعلوّ قدرها، ومواقف جليلة راحت تبيّن قوّة شخصيّتها، وعظمة إيمانها، ورسوخ عقيدتها، وثقتها بحقّها.. هناك آيات قرآنية نزلت، وقد انضمّت إليها فيها نفوس طاهرة أخرى: الإمام عليّ بن أبي طالب، وولداهما سيّدا شباب أهل الجنّة الحسن والحسين (عليهم السلام). نأتي على ذكر آيات ثلاث كريمة؛ وهو ما يتناسب وهذه المقالة المختصرة جدّاً البعيدة عن الإطالة والتفصيل، الذي يتطلّبه الخوض في مثل هذه الآيات وفي مواردها وما أُثير حولها أو حول بعضها من إيرادات وإشكالات والإجابة عنها، فقد تكفّلت بها كتب ومصادر مطوّلة، ولم تنجو هذه الفئة المؤمنة الصادقة من شبهات وأقاويل، غرضها إبعاد أيّ فضيلة لها وأيّ منقبة تتّصف بها أو منزلة لها، فراحت أقلامهم وآراؤهم وأقاويلهم تختلق منهجاً آخر بين الحين والحين بحسب ما تقتضيه الظروف والأحوال، لمحاربتهم والنيل من مكانتهم، إن لم يكن هذا بغضاً لهم فهو بغض لعليّعليه السلام يقيناً ولأتباعهم ومريديهم على مرّ التأريخ، فراحوا بأقلامهم الحاقدة والمأجورة يحرِّقون الكلم من بعد مواضعه، ويبدّلون قولاً غير الذي قيل لهم وغير الذي سمعوه بل وعقلوه أوّل أمرهم... وليس هذا غريباً عليهم في محاربة أهل البيتعليهم السلام حسداً وبغضاً، وكيف يكون غريباً وهو أمر ورثوه من آبائهم وتعبّدوا به.. إنّها أحقاد قديمة لم تمحَ حتّى بعد إعلانهم الشهادتين... وراحوا يلتزمون بروايات مختلقة أو ضعيفة للوصول إلى أهدافهم في طمس فضائل أهل البيتعليهم السلام أو تقويضها أو إلغاء أو تهميش دورهم ومواقفهم الرسالية أوالتعتيم عليها.. فبعيداً عن كلّ هذا، وهو أمر مؤلم حقّاً، نشير باختصار إلى ثلاث آيات فقط راحت تبيِّن طهارتهم ومنزلتهم ومواقفهم: (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِين). إنّ الجدال أو النقاش قد ينتهي إلى باب أو طريق مسدود، فيقف كلا الطرفين متمسِّكاً بما يملكه من آراء، وبما يتمسّك به من مواقف، وهنا قد يبادر أحدهما خاصّة من يعتقد جازماً بقوّة أدلّته ورصانتها، وحرصاً منه على النتيجة وثمرة ذلك، فيعلن شيئاً - بعيداً عن الأدلّة التي بيده؛ لأنّ الحجج والأدلّة لم تؤدِّ إلى نتيجة مع خصمه - يحسم ذلك النزاع، وثوقاً منه بأحقّانيّته وصواب موقفه، وهو ما فعله رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله) - المتيقّن للحقّ الذي بين يديه - في نقاشه الحادّ مع نصارى نجران، الذين راحوا يتمسّكون بباطلهم، ولم يرضخوا للحقّ وإن استيقنته قلوبهم، وحتّى يكشف القناع عن وجوههم وعنادهم، فدعاهم إلى المباهلة بأن يدعو كلّ فريق أحبّاءَه الخلّص، بل أعزّهم وأفضلهم، ثمّ يتوجّه إلى اللَّه تعالى ويدعوه بأن يصبّ لعنته وغضبه على الكاذب منهما وأن يطرده من رحمته، وهو أمر خطير جدّاً وعظيم، ولكنّه حدث بالفعل حين دعا رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله) عليّاً وفاطمة والحسن والحسين لا غيرهم. الواحدي في أسبابه عن جابر بن عبداللَّه أنّه قال: قدِمَ وفد أهل نجران على النبيّ (صلى الله عليه وآله): العاقب والسيّد، فدعاهما إلى الإسلام، فقالا: أسلمنا قبلك، قال: ((كذبتما، إن شئتما أخبرتكما بما يمنعكما من الإسلام. فقالا: هات شيئاً. قال: حبّ الصليب، وشرب الخمر، وأكل لحم الخنزير. (وفي رواية أُخرى عن الحسن أنّه (عليه السلام) قال لهما: ((كذبتما يمنعكما من الإسلام )): سجودكما للصليب، وقولكما: اتّخذ اللَّه ولداً، وشربكما الخمر، فقالا: ما تقول في عيسى؟ قال: فسكت النبيّ (صلى الله عليه وآله)، ونزل القرآن: (ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَليْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ* إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ* الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ* فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ...). فدعاهما رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله) إلى الملاعنة، فوعداه إلى الملاعنة على أن يغادياه في الغداة، فغدا رسول اللَّه فأخذ بيد عليّ وفاطمة، وبيد الحسن والحسين، ثمّ أرسل إليهما، فأبيا أن يجيبا، فأقرّا له بالخراج، فقال النبيّ (صلى الله عليه وآله): ((والذي بعثني بالحقّ لو فعلا لمطر الوادي ناراً)). قال جابر: فنزلت فيهم هذه الآية: (فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ). قال الشعبي: أبناءنا: الحسن والحسين، ونساءنا: فاطمة، وأنفسنا: عليّ بن أبي طالب رضي اللَّه عنه. وفي الكشّاف: ... فقال أسقف نجران: يا معشر النصارى! إنّي لأرى وجوهاً - وهو ينظر إلى رسول اللَّه وعليّ وفاطمة والحسن والحسين - لو شاء اللَّه أن يزيل جبلاً من مكانه لأزاله بها، فلا تباهلوا فتهلكوا، ولا يبقى على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة. (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً). إنّ موضوع طهارة الإمام عليّ وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام) أمرٌ متّفق عليه عند جميع المسلمين، بل حتّى عند من ناوئهم وخالفوهم، فهو يعدّ أمراً واضحاً لا لَبَس فيه ولا غموض، ولا شكّ يعتريه، وأمامك التأريخ والتراجم، فلا تجد شخصاً إلّا ويقول بتزكيتهم وطهارتهم، بل لم يذكر لنا التأريخ عيباً فيهم أو خطأً ارتكبوه أو شططاً وقعوا فيه، فيما كثرت زلّات غيرهم وعظمت أخطاؤهم وكبرت معاصيهم سواءً كانوا رجالاً أم نساءً... فسيرتهم عليهم السلام صالحة، ونفوسهم طاهرة، وحياتهم مباركة... نعم اختلفوا معهم، ناصبوهم العداء، ثاروا عليهم، غصبوا حقوقهم، تمرّدوا عليهم، افتروا عليهم... ولكن لا شكّ في طهارتهم، وإنّما هي الدُّنيا ومطامعها وإنّه المُلك لو نازعتني عليه، لأخذت الذي فيه عيناك. ثمّ إنّ عدل القرآن كالقرآن في طهارته ونقائه وصفائه: ((... إنّي تارك فيكم الثقلين: كتاب اللَّه وعترتي أهل بيتي...)). فقد راح رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله) يعدّهم؛ ليكونوا منهلاً عذباً تنتهل منه الأمة، ومصدرَ خيرٍ وعطاء للناس، ومنبع تبليغ لدّين اللَّه وأحكام وسنّة نبيّه (صلى الله عليه وآله)، ومرجعاً للأمة تعود إليهم دائماً في تلقّي الأحكام وفي اتّخاذ المواقف... فهم القدوة الصالحة والأُسوة الحسنة والمثال الرائع.. فلابدّ - إذن - من أن يكونوا (عليهم السلام) على درجة عالية وفي الذروة والقمّة في تزكية النفوس وطهارتها، وعلى يقينٍ وبصيرة بدين اللَّه وسنّة نبيّه الأكرم، فطهارتهم وعصمتهم هبة إلهيّة اختصّهم بها اللَّه تعالى دون العالمين، ودون نسائه بالذات اللواتي كنَّ يتمنين هذه المنزلة، وطالما اشرأبت أعناقهنّ لها، فهذه أُمّ المؤمنين أُمّ سلمه التي نزلت الآية في بيتها، تتمنّى أن تكون من أهل هذه الآية من أهل البيت، الذين كانوا في منزلها مجتمعين تحت كساء واحد. فقد جمع رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله) عليّاً وفاطمة والحسن والحسين تحت كساء واحد وقال: ((اللّهمَّ هؤلاء أهل بيتي أذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً)). فتقول أُمّ سلمه لرسول اللَّه (صلى الله عليه وآله): فأنا معهم يا نبيّ اللَّه؟! فيقول لها: ((أنت على مكانك، وأنتِ على خير)). اُنظر الو احدي في أسبابه بسنده عن أُمّ سلمه: إنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) كان في بيتها، فأتته فاطمة رضي اللَّه عنها بِبُرمة فيها خزيرة، فدخلت بها عليه، فقال لها: ((ادعي لي زوجك وابنيك. قالت: فجاء عليّ والحسن والحسين، فدخلوا فجلسوا يأكلون من تلك الجزيرة، وهو على منامة له، وكان تحته كساء خيبريّ، قالت: وأنا في الحجرة أُصلّي، فأنزل اللَّه تعالى هذه الآية: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً). قالت: فأخذ فضل الكساء فغشّاهم به، ثمّ أخرج يديه فألوى بهما إلى السماء ثمّ قال: اللّهمَّ هؤلاء أهل بيتي وخاصّتي (وحاميتي) فاذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً)). قالت: فأدخلت رأسي البيت، فقلت: وأنا معكم يارسول اللَّه؟! قال: إنّك إلى خير. ونقل أيضاً عن أبي سعيد أنّ هذه الآية (نزلت في خمسة، في النبيّ (صلى الله عليه وآله) وعليّ وفاطمة والحسن والحسين رضوان اللَّه عليهم أجمعين). (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً* إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُوراً). نفوس في ذروة الزهد والعفّة، وقلوب في منتهى الشعور بالبرّ والعطف على الآخرين، فهي لا تحبّ الطعام من أجل الطعام بل بقدر ما يقرّبها إلى اللَّه، وبقدر ما ينقذها من ذلك اليوم الموعود ومن شروره. لقد كانت هذه النفوس صائمةً للَّه تعالى، ولهذا كانت بحاجة إلى طعام يسدّ عليها رمقها وقت الإفطار، لتواصل صومها أيّاماً أخرى، ومع هذا قدّمت لقمة إفطارها لفئات من الناس ولضعاف محاويج منهم، أصناف ثلاثة تتوالى على هذا البيت الذي هو من البيوت التي أذِن اللَّه أن ترفع ويذكر فيها اسمه، بيت علي ّوفاطمة، بيت العفّة والطهارة، بيت الإيمان والقرب من اللَّه تعالى، بيت أحبّاء اللَّه وأودّائه، باب تطرق في اليوم الأوّل، إنّه مسكين، فيقدّم كلّ ما عندهم من طعام على حبّهم له، لأنّه طعام إفطارهم لا غيره عندهم، ولكنّه البرّ وحبّهم لهم (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ). ولكنّه وجه اللَّه وحبّهم وتفانيهم من أجله. وهكذا في اليوم الثاني فإذا به يتيم، وهكذا في اليوم الثالث وإذا به أسير. إنّها الرحمة الفائضة من القلوب الرقيقة الرفيقة بعباد اللَّه، التي قدّمت كلّ شيء، بل وجودها كلّه من أجل اللَّه وعباده. إنّها نفوس تتّجه بكلّ أعمالها إلى اللَّه حيث رضاه، وجنّته، بعيداً عن طلب الجزاء من الخلق ولا الشكر، ولا تقصد بعملها هذا استعلاء على المحتاجين ولا خيلاء، إنّما تتّقي به يوماً عبوساً شديد العبوس، كانت على قدسيّتها وطهارتها وإيمانها تخشاه، وأيّ خشية! وتتّقيه بهذا الو قاء وبكلّ عطاء وبرٍّ. وقبلهم كان رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله) يربّيهم ويربّي من حوله أن: ((اتّقِ النار ولو بشقّ تمرة)). إنّه الرغبة في الخير ابتغاء وجه اللَّه، والتجرّد من الأهداف الدنيويّة من نفع أو شكر أو جزاء هكذا كانت فاطمة وكان عليّ وكان الحسن وكان الحسين، إذ كان بيت عامر بالخير والعطاء حتّى لمن ناصبوهم العداء. قال عطاء عن ابن عبّاس: وذلك أنّ عليّ بن أبي طالب نوبةً أجّر نفسه يسقي نخلاً في شعير ليلةً، حتّى أصبح وقبضَ الشعير وطحن ثلثه، فجعلوا منه شيئاً ليأكلوه، يقال: الخزيرة. فلمّا تمّ إنضاجه أتى مسكين، فأخرجوا إليه الطعام، ثمّ عمل الثلث الثاني، فلمّا تمّ إنضاجه أتى يتيم، فسأل فأطعموه، ثمّ عمل الثلث الباقي، فلمّا تمَّ إنضاجه أتى أسير من المشركين فأطعموه، وطووا يومهم ذلك. فأنزلت فيه هذه الآيات. الزهراء في عبادتها: لقد عاشت الزهراء وجودها كلّه من أجل اللَّه تعالى، انطلاقاً من سموّها الروحي والفكري، فظلّت تعيش الطهر بكلّ معانيه، والعصمة بكلّ معانيها، والإنسانيّة بكلّ معانيها وعطائها؛ فقد كانت تعيش مشاكل المسلمين وهمومهم وآلامهم قبل همومها وآلامها ومتاعبها، وكانت في عبادتها تخشى عظمة اللَّه وتستحضر ألطافه ونعمه. لهذا نجد الزهراء سلام اللَّه عليها في عبادتها كما يقول عنها ولدها الإمام الحسنعليه السلام فيما كان يحدث: أنّها كانت تقوم الليل حتّى تتورّم قدماها، وكانت تدعو للمؤمنين والمؤمنات ولا تدعو لنفسها، فقال لها: يا أُمّاه لِمَ لا تدعين لنفسك؟ فقالت: يا بُني ((الجار قبل الدار))، وهو قوله تعالى: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ). وتقول أُمّ المؤمنين عائشة عن الزهراء: * (ما رأيت أصدق منها إلّا أباها). * (ما رأيت في هذه الأمة أحداً أعبد من فاطمة إلّا أباها). وقد قيل في عبادتها: قال الحسن البصري: ما كان في هذه الأمة أعبد من فاطمة عليها السلام، كانت تقوم حتّى تتورّم قدماها. وقال الحسن بن علي ّعليه السلام: ((رأيت أُمّي فاطمة عليها السلام، قامت في محرابها ليلة جمعتها، فلم تزل راكعةً ساجدةً حتّى اتّضح عمود الصبح، وسمعتها تدعو للمؤمنين والمؤمنات وتسمّيهم وتكثر الدُّعاء لهم، ولا تدعو لنفسها بشيء، فقلت لها: يا أُمّاه، لِمَ لا تدعين لنفسك كما تدعين لغيرك؟ فقالت: يا بُنيّ الجار ثمّ الدار)). وكانت تتشوّق إلى ساعات العبادة وأفضلها حتّى قالت: ((سمعت رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله) يقول: إنّ في الجمعة ساعة، لا يوافقها رجل مسلم يسأل اللَّه عزّوجلّ فيها خيراً إلّا أعطاه إيّاه، قالت: فقلت: يارسول اللَّه أيّة ساعة هي؟ قال: إذا تدلّى نصف عين الشمس للغروب، فكانت فاطمة عليها السلام تقول لغلامها: اصعد إلى الضراب، فإذا رأيت نصف عين الشمس تدلى للغروب، فأعلمني حتّى أدعو)). فاطمة سيّدة بيتها!: ومع كلّ هذه العبادة المتواصلة والواعية، لم تترك وظيفتها كزوجة، وأُمّ أولاد، وربّة بيت، حتّى قال عنها علي ّ(عليه السلام) لرجل من بني سعد: ((ألا أُحدّثك عنّي وعن فاطمة، إنّها كانت عندي وكانت من أحبّ أهله إليه، وأنّها استقت بالقربة حتّى أثّر في صدرها، وطحنت بالرحى حتّى مجلت يداها، وكسحت البيت حتّى اغبرّت ثيابها، وأوقدت النار تحت القدر حتّى دكنت ثيابها، فأصابها من ذلك ضرر شديد.. وأنّ رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله) رأى فاطمة وعليها كساء من أجلة الإبل وهي تطحن بيديها، وترضع ولدها، فدمعت عينا رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله) فقال: يا بنتاه تعجّلي مرارة الدُّنيا بحلاوة الآخرة، فقالت: يارسول اللَّه الحمد للَّه على نعمائه والشكر للَّه على آلائه)). ولمّا ذكرت حالها لأبيها - يوماً - وسألت جارية تعينها، بكى رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله) وقال:(( يا فاطمة، والذي بعثني بالحقّ إنّ في المسجد أربعمائة رجل، ما لهم طعام ولا ثياب، ولولا خشيتي خصلة لأعطيتك ما سألت، يا فاطمة إنّي لا أريد أن ينفك عنك أجرك إلى الجارية....)). تسبيح الزهراء: وفي ر | |
|